أزمة الديون الأميركية المتصاعدة- الأسباب والتداعيات والحلول المقترحة

المؤلف: د. جمال قاسم09.17.2025
أزمة الديون الأميركية المتصاعدة- الأسباب والتداعيات والحلول المقترحة

تتجه أنظارُ المحلّلين والخبراء الدوليين صوب القرارات المتلاحقة والمستجدة التي يتخذها الرئيس الأميركي ترامب منذ استقراره في البيت الأبيض، هذه القرارات التي طالت جوانبَ شتّى من الحياة العامة في الولايات المتحدة، بدءًا من مساعي ترحيل المهاجرين ممّن لا يحملون وثائق إقامة شرعية.

‏إلى جانب ذلك، تبرز مواقف الرئيس ترامب حيال السياسة الخارجية للولايات المتحدة، والتي تتضمن مقترحاتٍ كالاستحواذ ‏على قناة بنما، وضم كندا لتشكل الولاية ‏الـ 51، هذا بالإضافة إلى رغبته في شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك، واستكشاف إمكانية الحصول على المعادن النفيسة من أوكرانيا، وحتى السيطرة ‏على قطاع غزة.

غير أن هناك ملفًا بقيَ بمنأىً عن اهتمام وسائل الإعلام إلى حدّ كبير، وهو ملف الديون الأميركية، الذي سيشكل بلا شكّ القضية الأهم والأكثر تأثيرًا في تحديد مستقبل الولايات المتحدة ‏على الأمد البعيد.

‏وفي خطوة لافتة، اختار الرئيس الأميركي ترامب، إيلون ماسك - الذي يُعدّ حاليًا أغنى رجل في العالم و‏يحظى بقربٍ شديد من الرئيس ترامب نفسه - لتولي منصبٍ جديد يُستحدث للمرة الأولى في الحكومة الفدرالية الأميركية، وذلك بهدف تحقيق تقليصٍ ملموس في العجز المسجل في الموازنة الأميركية، وبالتالي خفض حجم الديون الخارجية الأميركية المتراكمة.

وقد نبّه إيلون ماسك إلى أن خدمة الدين الأميركي - أي فوائد الدين الربوية - ستصل إلى ما يقارب تريليون دولار أميركي سنويًا، وهو ما يمثل حوالي ربع الميزانية العامة للولايات المتحدة.

في الوقت الراهن، يبلغ إجمالي الدين العام الأميركي ما يقارب 36 تريليون دولار أميركي، مع زيادة يومية تقدر بستة مليارات دولار أميركي ‏منذ العام المنصرم. وقد أطلق بعض المهتمين بقضية الديون الأميركية موقعًا إلكترونيًا تحت اسم "ساعة الدين الأميركي"؛ بهدف تصوير كيفية نمو الديون الأميركية لحظةً بلحظة.

‏إن مشكلة الديون الأميركية ليست وليدة اليوم، بل هي قضية قديمة، إلا أن حدّتها تفاقمت بشكل ملحوظ خلال العقود الأخيرة. فعندما ترشّح الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان للانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 1980، رفع شعارًا مفاده أن "الحكومة ليست هي الحل لمشاكلنا، بل هي المشكلة بحد ذاتها"، وذلك بسبب إنفاقها لأموال لا تملكها،‏ الأمر الذي سيشكل عبئًا ماديًا ‏كبيرًا على كاهل الأجيال الأميركية القادمة.

ولكن، عندما استلم رونالد ريغان مقاليد الحكم، لم يكن الدين الأميركي يتجاوز تريليون دولار أميركي واحد، ولم يكد ينهي فترتيه الرئاسيتين حتى قفز الدين الأميركي إلى أكثر من تريليونَي دولار أميركي، ومن هنا انطلقت عجلة الدين الأميركي بوتيرة متسارعة تنذر بمخاطر جسيمة، لا تقتصر على الاقتصاد فحسب،‏ بل تمتد لتشمل العالم ‏بأكمله.

‏وخلال السنوات الخمس والعشرين الماضية، شهدت الديون الأميركية تصاعدًا مخيفًا؛ نتيجةً لتعرّض الولايات المتحدة لثلاث أزمات أمنية واقتصادية كبرى سنتناولها بإيجاز في هذا المقال.

فاتورة حربَي أفغانستان والعراق الباهظة

في أثناء مناظرة رئاسية شهيرة جمعت بين جورج بوش الابن وآل غور نائب الرئيس الأميركي آنذاك والمرشح الديمقراطي، قبيل انتخابات عام 2000، كان النقاش يدور حول كيفية استغلال الفائض في الميزانية الفدرالية لإدارة كلينتون، وكانت تلك هي المرة الأخيرة منذ عقود طويلة التي تسجل فيها الولايات المتحدة الأميركية فائضًا في ميزانيتها.

تبنّى جورج دبليو بوش الابن ‏آنذاك سياسة تقوم على الاستفادة من هذا الفائض لخفض الضرائب الأميركية لمدة عشر سنوات، وهي السياسة التي استمرّت حتى العامين الأولين من ولاية الرئيس باراك أوباما.

ولكن، ما إن تعرّضت الولايات المتحدة الأميركية لهجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول الإرهابية، حتى وجدت إدارة الرئيس جورج بوش الابن نفسها في أمسّ الحاجة لزيادة الإنفاق في مجال الدفاع الوطني، وذلك لتغطية النفقات المتزايدة لحربين متزامنتين في أفغانستان والعراق، دون اللجوء إلى رفع الضرائب على المواطنين الأميركيين.

لقد قادت هذه السياسة المعيبة إلى نتائج وخيمة، تمثلت في إضعاف النفوذ الأميركي وتوريط البلاد لعقدين كاملين في حربين لم تجنِ منهما سوى الخسائر الفادحة في الأموال والعتاد والأرواح.

لقد تسببت حربا العراق وأفغانستان ‏بخسائر تقدر بما بين أربعة إلى ستة تريليونات دولار أميركي، الأمر الذي أدى إلى تسريع وتيرة الديون الخارجية للولايات المتحدة منذ بداية ولاية جورج بوش الابن وحتى نهايتها، والتي شهدت بداية الانحدار المتسارع في مشكلة الديون الأميركية.

الكساد الاقتصادي العظيم 2008

‏مثلت أزمة الكساد الاقتصادي العظيم التي عصفت بالعالم في عام 2008، الكارثة الثانية التي أسهمت بشكل كبير في تفاقم أزمة الديون الأميركية. ففي نهاية ولايته، لم يجد جورج بوش الابن، وكذلك الرئيس أوباما في بداية عهده، ‏بدًا من ضخ أموال هائلة عن طريق الاقتراض؛ بهدف تحفيز الاقتصاد الأميركي، ووقف التدهور المتسارع في أسواق المال الأميركية، وذلك لتجنب كارثة ‏مماثلة لكارثة الكساد الاقتصادي العظيم الذي حدث في سنة 1929، وما أعقبها من صراعات دولية أدت إلى اندلاع حرب عالمية ثانية مدمرة.

لقد نشأت أزمة الكساد الاقتصادي العظيم في عام 2008، نتيجةً لشراهة البنوك الاستثمارية، وتطبيق سياسات مالية متراخية في مجال الرهن العقاري، مما تسبب في فقدان ملايين الأميركيين لوظائفهم ومنازلهم.

وقد استشعر قطاع واسع من المواطنين الأميركيين غضبًا عارمًا تجاه الحكومة الفدرالية والرئيس أوباما، احتجاجًا على سياسة الإنقاذ المالي والدعم الفدرالي للبنوك والشركات الأميركية الكبرى.

مهّدت هذه الأصوات الشعبية الغاضبة لظهور حركة احتجاجية محافظة تُعرف بحركة حزب "الشاي"، والتي كان من أبرز نتائجها ‏انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب ‏في عامي 2016 و2024.

‏وتشير بعض الدراسات الاقتصادية الموثوقة إلى أن تكلفة الحزم الاقتصادية ‏التحفيزية لسنة 2008، تتجاوز تريليونَي دولار أميركي، ولقد تمكن الاقتصاد الأميركي في عهد الرئيس أوباما من تجاوز هذه الأزمة الاقتصادية ‏التي كادت أن ‏تؤدي إلى ‏انهيار أسواق المال الأميركية، وكذلك الاقتصاد العالمي بأسره، ‏إلا أن هذه الأزمة قد زادت أيضًا من أعباء الديون الأميركية.

أزمة فيروس كورونا الصحية

‏كانت الأزمة الثالثة المدمرة التي أثقلت كاهل الديون الأميركية هي جائحة فيروس كورونا الصحية، التي هزت العديد من اقتصادات العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية.

لقد كان للاستجابة الأميركية خلال ‏الولاية الأولى للرئيس ترامب تأثير كبير في حماية الاقتصاد الأميركي من الانهيار، وذلك من خلال ضخ كميات كبيرة من الأموال لتحفيز الاقتصاد عن طريق دعم المشاريع التجارية الصغيرة والمتوسطة، بالإضافة إلى مساندة الشركات الأميركية الكبرى.

كما أطلق الرئيس ‏الأميركي السابق جو بايدن حزمة إنقاذ اقتصادي تحفيزية للاقتصاد الأميركي تقدر قيمتها بتريليونَي دولار أميركي، مما أثقل الدين الأميركي ‏بأكثر مما يحتمل، ولم تنجح سياسات بايدن الاقتصادية الرامية إلى مساعدة الفقراء الأميركيين ‏في تحقيق الفوز لمرشحي حزبه الديمقراطي في انتخابات الرئاسة عام 2024.

‏وفي تقرير أعده ‏ديفيد كتلر، الأستاذ الجامعي بجامعة ‏هارفارد، ‏أشار إلى أن التداعيات الاقتصادية لوباء فيروس كورونا تشتمل على ثلاثة أنواع من التكاليف الاقتصادية، أحدها يتعلق بتراجع جودة الحياة، مما يكلف المجتمع الأميركي حوالي تريليونَي دولار أميركي، والآخر يتمثل في انخفاض الدخل نتيجة للفيروس بما يعادل تريليون دولار، بالإضافة إلى زيادة الإنفاق الطبي الذي تسببت به الجائحة بما يعادل نصف تريليون دولار، لتصل التكلفة الإجمالية ‏إلى أكثر من ثلاثة تريليونات دولار أميركي، ‏هذا بالإضافة إلى تكلفة الدعم المباشر، الذي قدّمه كل من الرئيسين: ترامب، وبايدن.

‏من المتوقع أن تؤدي السياسات الاقتصادية للرئيس الأميركي الحالي - مثل سياسة تخفيض الضرائب الأميركية التي ‏تتضمن تخفيضات كبيرة لضرائب الشركات الأميركية والأثرياء - إلى إضافة حوالي أربعة تريليونات دولار للدين الأميركي خلال السنوات القادمة، وذلك وفقًا لبعض الدراسات الحديثة.

سيكون لتصاعد الدين العام الأميركي تأثير بالغ على الاقتصاد الأميركي،‏ وعلى قطاعات حيوية في المجتمع الأميركي، مثل القدرة على الوفاء بالالتزامات الحكومية الأميركية تجاه الضمان الاجتماعي،‏ وسداد خدمة الدين العام المتراكم نفسه، بالإضافة إلى تأثيره على قدرة الولايات المتحدة الأميركية على الاستمرار في فرض هيمنتها السياسية والعسكرية على الساحة العالمية، والانخراط في حروب طويلة الأمد كتلك التي خاضتها في العراق وأفغانستان.

‏‏قد تجد الولايات المتحدة الأميركية صعوبة بالغة في مواجهة أزمة اقتصادية مستقبلية على غرار أزمة الكساد العظيم في عام 2008، أو جائحة فيروس كورونا، ما لم تتصدَّ لقضية تراكم الدين العام بأسلوبٍ يحد من تفاقم المشكلة، كما يبدو أن العالم بأسره ليس مستعدًا أيضًا للبحث عن حلول ناجعة لمعالجة مشكلة الديون التي تعاني منها العديد من دول العالم المتقدم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة